تمهيد
اهتم الباحثون في حقل الدراسات الإعلامية منذ ثلاثينيات القرن الماضي على وجه التحديد وحتى الآن بالبحث في مدى تأثير وسائل الإعلام على الجمهور. تراكم بفعل ذلك الاهتمام تراث نظري فرعي بات يٌعرف بدراسات تأثير الميديا media effects tradition، طرح رؤى متباينة حول ماهية وحدود تأثير وسائل الإعلام بغض النظر عما إذا كان ذلك التأثير سلبياً أم إيجابياً. تحاول رؤية اليوم إلقاء الضوء على مجمل ما انتهت إليه جهود الباحثين في هذا الصدد، ومناقشة ما إذا كان تأثير الميديا ينحصر في مجرد قدرتها على تعزيز اتجاهات وسلوكيات الجماهير المسبقة أم بإمكانها كذلك تغييرها بشكل جذري.
جدلية "التعزيز" في مقابل "التغيير"
في إطار سعيهم الحثيث لفهم حجم تأثير وسائل الإعلام على الجمهور، طرح الباحثون وجهات نظر عديدة من بينها فرضية"التعزيز مقابل التغيير" reinforcement versus change. مدار تلك الفرضية سؤال محوري: هل ينحصر مدى تأثير وسائل الإعلام عند حد تعزيز الاتجاهات والسلوكيات المسبقة لدى الجماهير (reinforcement hypothesis) فقط، أم يتسع ليشمل تغيير الاتجاهات والسلوكيات (change hypothesis) على نحو جذري. يحتج أنصار فرضية "التغيير" بشواهد عديدة من بينها على سبيل المثال: تنامي الميول العدوانية لدى بعض الأطفال نتيجة المشاهدة الكثيفة لأفلام الكرتون العنيفة، تغير قناعات وتفضيلات بعض الناخبين السياسية إثر التعرض لحملات إعلامية احترافية، زيادة معارف المواطنين بالشأن العام نتيجة التعرض للمضامين الإخبارية في وسائل الإعلام المختلفة.
على الجانب الآخر، يذهب أنصار فرضية "التعزيز" إلى أن ثمة استراتيجيات دفاعية تلجأ إليها الجماهير تلقائياً تحد من تأثير الوسيلة الإعلامية. من بينها مثلا، التعرض الانتقائي selective exposure الذي يشير إلى أن الجمهور يبحث عن المضامين الإعلامية التي تتسق فقط مع اتجاهاته وسلوكياته المسبقة. ومنها كذلك الإدراك الانتقائي selective perception، الذي يعمد الجمهور في إطاره إلى إعادة فهم وتفسير المضامين الإعلامية التي يتعرض لها بحيث تتسق مع اتجاهاته وسلوكياته المسبقة نحو القضايا والموضوعات المثارة ولا تتعارض معها (لمزيد من التفاصيل حول فرضية "التعزيز" في مقابل "التغيير"، انظر: Elizabeth Perse, Media Effects and Society, Lawrence Erlbaum Associates, London, 2008).
هل حسم ظهور الإعلام البديل النقاش حول فرضية "التعزيز"/"التغيير"؟
إضافة للعمليات النفسية/الانتقائية سابقة الذكر، أضاف ظهور الإعلام البديل alternative media زخماً كبيراً للنقاش الدائر حول فرضية "التعزيز" مقابل "التغيير". ويبدو أن ذلك النقاش قد حُسم لصالح أنصار فرضية "التعزيز"، بفعل الإعلام البديل. يرجع السبب في ذلك إلى ما أتاحه الإعلام البديل من مصادر إعلامية لا حصر لها أمام الجمهور، أنهت فترة طال أمدها انفردت خلالها وسائل الإعلام الجماهيرية mass media بالتأثير (سلباً أم إيجاباً) على اتجاهات وسلوكيات الجمهور.
بمعنى آخر، بات بمقدور الجمهور العادي التحقق من مصداقية وموضوعية مضامين الإعلام التقليدي عبر الإبحار في الفضاء الإلكتروني وقتما أراد، وهو الأمر الذي أضعف من القدرة التأثيرية لوسائل الإعلام. يُفهم من الطرح السابق، أنه في الوقت الذي اتفق فيه الباحثون على أن وسائل الإعلام تؤثر بشكل أو بآخر في تشكيل اتجاهات وسلوكيات الجمهور، إلا أنهم اختلفوا حول حجم ذلك التأثير ومداه. فقد أفضت عوامل نفسية وتقنية/إعلامية وديموغرافية عديدة إلى تغليب رؤية أنصار فرضية "التعزيز" وليس "التغيير"، فيما يتعلق بجدلية قدرة وسائل الإعلام في التأثير على الجمهور. وتكفي إطلالة عابرة على شبكة الإنترنت أو مواقع التواصل الاجتماعي للدلالة على أن الجمهور لم يعد قادراً فحسب على اختيار المضامين الإعلامية التي "تعزز" من اتجاهاته وسلوكياته المسبقة، بل بات باستطاعته إنتاج مضامين إعلامية موازية يمكنه من خلالها الحد من قدرة الميديا على "تغيير" اتجاهات وسلوكيات الآخرين، الأمر الذي يدعم فرضية "التعزيز" التي تعد إطاراً نظرياً أكثر ملاءمة عند فهم وتفسير حدود تأثير وسائل الإعلام على اتجاهات وسلوكيات الجماهير.
Comentários