تمهيد
يتمحور اهتمام المشتغلين بالعلوم الاجتماعية حول فهم السلوك البشري ومحاولة التنبؤ به قبل وقوعه. ولذا، طور الباحثون أدوات منهجية عديدة سعياً لتحسين القدرة على توقع سلوك الأفراد ومن ثم تجنب السلوكيات الضارة وتعزيز السلوكيات النافعة. واعتمد الباحثون في هذا الإطار على العينات، نظراً لتعذر دراسة جميع مفردات المجتمع محل الدراسة لاعتبارات تتعلق إما بالتمويل أو الوقت أو الجهد المطلوب. ومن ثم بات اللجوء للعينات في البحوث الكمية ضرورة وليس ترفاً بحثياً كما قد يظن البعض.
توظيف العينات..عودة إلى البدايات الأولى
ترجع البدايات الأولى لتوظيف العينات على نطاق واسع ووفق أسس علمية رصينة إلى أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث زاد اهتمام الصحف ومراكز استطلاع الرأي آنذاك بقياس اتجاهات الناخبين الأمريكيين نحو مرشحي الرئاسة. فعلى سبيل المثال، أجرت صحيفة The Literary Digest أول استطلاع رأي على عينة عشوائية من المواطنين على مستوى الولايات المتحدة ككل عام 1916، وصدقت توقعات الصحيفة آنذاك بفوز الرئيس "ولسون". إلا أنه وبعد عشرين عاماً من ذلك النجاح المدوي، وتحديداً عام 1963، أجرت الصحيفة استطلاعاً آخر للرأي شمل ما يزيد عن مليون مواطن توقعت على أثره فوز المرشح الجمهوري "لاندون" على نظيره الديمقراطي "روزفلت"، غير أن الأخير فاز بالانتخابات في ضربة قاصمة لمصداقية الصحيفة والمنهجية التي اعتمدت عليها (لمزيد من التفاصيل حول مراحل تطور توظيف العينات في استطلاعات الرأي، انظر: ماجد عثمان، قياس الرأي العام من النظرية إلى التطبيق، دار الشروق، القاهرة، 2011).
متى تكون العينة ممثلة للمجتمع؟
انتبه الباحثون منذ ذلك الوقت إلى أن كبر حجم العينة لا يشكل ضماناً بمفرده لأن تكون ممثلة للمجتمع، واستدلوا بذلك على نجاح الأكاديمي المعروف آنذاك "جورج جالوب" في توقع فوز "روزفلت" بالرئاسة وفق استطلاع للرأي كان قد أجراه على عينة بلغت خمسة آلاف مواطن أمريكي فقط. انتهى الباحثون من ذلك إلى أن دقة التصميم المنهجي، ومدى ملاءمة نوع العينة للمجتمع، وطريقة اختيار العينة تعد عوامل أكثر أهمية مقارنة بحجم العينة (ماجد عثمان، المرجع السابق).
يوضح الشكل أعلاه أن العينة sample A1 تعد جزءا لا يتجزأ من المجتمع population A، ولذا ينبغي أن تمثل شرائحه المختلفة وألا تكون منحازة لشريحة دون أخرى، الأمر الذي تجاهلته صحيفة Digest. فبالعودة إلى أسباب الإخفاق في توقع نتائج الانتخابات، رغم ضخامة حجم العينة، تبين أن العينة التي وقع عليها الاختيار تشكلت في معظمها من الفئات الأعلى دخلاً ممن تميل عادة لتأييد الحزب الجمهوري (الذي كان يمثله "لاندون") وليس الحزب الديمقراطي (ومرشحه "روزفلت")، ومن ثم كانت عينة متحيزة لا تمثل المجتمع الأمريكي (لمزيد من التفاصيل انظر: Wimmer & Dominck, Mass Media Research: An Introduction, Thomson Wadsworth, Belmont, USA, 2006)
حجم العينة .. جدل غير محسوم!
لا يعني ما سبق ذكره أن حجم العينة كعامل يمكن التغاضي عنه بالكلية، إذ تفيد القاعدة الحاكمة للباحثين في هذا السياق بأنه كلما زاد حجم العينة زادت احتمالات أن تكون معبرة عن المجتمع الفعلي. وبالرغم من ذلك،لم يتفق الباحثون على حجم مثالي محدد للعينة يمكن معه الاطمئنان بأن ما يصلون إليه من نتائج يعبر تعبيراً كاملاً عن المجتمع الفعلي. تأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن النقاش العلمي المتجدد حول فعالية توظيف العينات في البحوث الكمية لا يعد ترفاً بحثياً بل ضرورة علمية لسببين: الأول يتعلق بحاجة الباحثين المستمرة لفهم أعمق للدوافع المحركة للسلوك الإنساني ومن ثم إمكانية التنبؤ به قبل وقوعه، ولن يتحقق ذلك إلا باللجوء للعينات واختيار أكثرها ملاءمة لتمثيل المجتمع الفعلي. أما السبب الثاني فيتصل بالتطورات الإعلامية المتلاحقة التي أفضت إلى تجزئة الجمهور وهجرته شبه الجماعية نحو الفضاء الإلكتروني. الأمر الذي يتطلب ضرورة العمل المستمر على استحداث أنواع جديدة من العينات والأدوات البحثية (كالاستبيانات الإلكترونية Online surveys والتجارب الإلكترونية Online experiments) بما يتماشي مع تلك التطورات وبما يمكن الباحثين من التنبؤ بالسلوك البشري بشكل أكثر دقة لصالح الفرد والمجتمع. لقد أدت المرحلة الراهنة للإعلام والاتصال التي تتسم بترسخ مرحلة شبكات التواصل الاجتماعي وهيمنتها على الفضاء المجتمعي بشكل عام، إلى تعقيدات غير مسبوقة في كفاءة عينات البحوث، نظرا للتشتت الحاصل في طبيعة المجتمعات الأصلية التي كانت في المراحل السابقة في مجملها مجتمعات مستقبلة للمضامين الإعلامية والاتصالية، في حين أصبحت اليوم مرسلة مستقبلة في ذات الوقت.
وبالتالي، لم يعد أمام مراكز البحوث من بد في أن تنفق كثيرا من الوقت والجهد في بداية تخطيطها لتنفيذ الدراسات والبحوث الكمية في مناقشة وإقرار أي الأساليب أقدر على أن تكون العينات التي يتم سحبها ممثلة بالفعل للمجتمع الذي تجري دراسته، وأنها قادرة بالفعل على تحقيق أهداف الدراسة.
انتهى..
Comments